الرئيسية

الدكتور صموئيل عبد الشهيدقد يرى البعض في قولنا: "الشك مرحلة إيمان" لغوًا أو حتى مروقًا عن الدين؛ كما قد يجد البعض الآخر في مثل هذه العبارة وجهًا من وجوه الحقيقة التي لا تتناقض مع الوعي الديني الأصيل. والواقع أن الشك هو حالة أو أزمة فكرية يمرّ بها كل باحث عن الحقيقة. والشك المخلص هو مظهر عافية لأنه "الحافز" الكامن وراء كل معرفة. وإذا أدركنا أن التجارب الإنسانية على مختلف مستوياتها تشتمل في مرحلة من مراحلها على عنصر الشك، يتّضح لنا أننا لا نستطيع أن نعيش بمعزل عن هذه المرحلة ولو في حقبة ما من حقبات حياتنا.

عندما كنت طالبًا في الجامعة تعرّضت في فترة ما من فترات حياتي إلى هجمات الشك. فمع أنني كنت مؤمنًا مختبرًا معنى الخلاص، وكنت واثقًا أن موت المسيح على الصليب قد حررني من عبودية الخطيّة، فإن عوامل أخرى، وأزمات فكرية طغت على عقلي وأثارت في نفسي آلامًا هائلة، بل ولّدت في أعماقي شكوكًا وردّات فعلٍ أخذت تمزقني حتى كادت تودي بإيماني وسلامي اللذين كنت أتمتع بهما سابقًا.

غير أن هذه الشكوك، على الرغم من قساوتها كانت لها، في المدى البعيد، تأثيرات إيجابية، بل تحوّلت إلى مظهر عافية أفضى إلى نموّي الروحي بصورة لم أكن أتوقّعها. ذلك أن الأزمات الفكرية التي أسفرت عنها هذه الشكوك حفّزتني على البحث والدراسة من ناحية، واللجوء إلى معونة الرب من ناحية أخرى. وقد خرجت من مصطرع القتال أو معركة الشك هذه وأنا أكثر قوة، وأرسخ إيمانًا، وأعمق وعيًا لطبيعة علاقتي بالمسيح.

ولست أزعم هنا أن على كل إنسان أن يعاني من مرحلة الشك هذه قبل أن يبلغ يقين الإيمان؛ فهناك ملايين من المؤمنين الذين أقبلوا إلى المسيح وآمنوا بعمله الكفاري، وعاشوا كل حياتهم بقلوب مطمئنة، وسلام حقيقي. إن مثل هؤلاء قد أبحروا في محيط هادئ خالٍ من الأزمات الفكرية، وتمتّعوا برحلة روحية يسودها السلام. ولكن ماذا عن الذين خاضوا بحارًا هائجة من الشك أو وجدوا أنفسهم في مواقف مصيريّة؟ ماذا عن الذين نشأوا على دين ما ثم قادهم التفكير والبحث، والاحتكاك الاجتماعي أو السياسي أو الديني لاعتناق دين آخر؟ إن مرحلة الانتقال هذه هي مرحلة شك وأزمات فكرية واجتماعية وحتى تشريعية لا يسع المرء أن يتجاهلها. ولكن متى خرج منها وقد تبيّن له هدى سبيله يكون قد استقر على صخرة إيمان لا تهزّها الأنواء. وهذا ما يذكرنا بقصة توما تلميذ المسيح الشكاك. لم يكن موقف توما موقفًا غريبًا، بل كان، على ضوء معطيات الظروف التي أحاطت بصلب المسيح، موقفًا طبيعيًا. يحدثنا الكتاب المقدس أن المسيح نفسه قال لتلاميذه في الليلة التي أُسلم فيها أن جميعهم سيشكُّون به. فالشك كان ردّة فعل طبيعيّة. وفجأة بعد القيامة، يأتي من يقول لتوما أن السيد قد قام من بين الأموات، وأنه حيٌّ يرزق وقد ظهر لجميع التلاميذ في أثناء غيبة توما عن العليّة. فماذا يكون الموقف الطبيعي لتوما؟

في رأيي المتواضع، إن كل ما جرى آنئذ كان تدبيرًا إلهيًا. ألم يكن في وسع المسيح أن يظهر للتلاميذ عندما يكون توما في وسطهم؟ ولكن الخطة الالهية كانت ترمي إلى هدف آخر سيتردّد صداه عبر الأجيال. يبدو لي أن المجتمع بل الأوساط الدينية تحتاج أحيانًا لمثـل توما. لقد شك توما بكلام التلاميذ وظنّ أن هذيانًا قد أصابهم، إذ كيف يمكن لمن شهدته عيناه يموت مصلوبًا ويُدفن في قبر يعود فيقوم من بين الأموات؟

ويتحدى توما التلاميذ قائلًا:

"إن لم أُبصر في يديه أثر المسامير وأضع اصبعي في أثر المسامير وأضع يدي في جنبه لا أؤمن" (يوحنا 25:20).

هنا جوهر الموضوع: شكُّ توما المُخْلِص يتطلّب جوابًا مفحمًا لا يقتصر تأثيره على  حياة توما بل يتعدّاه إلى عصور الكنيسة حتى مجيء المسيح الثاني. أما الجواب فكان الظهور الثاني للمسيح في الوقت الذي كان فيه توما حاضرًا. ويخاطب السيد المسيح توما بالذات: تعال يا توما، يا من شككت بحقيقة قيامتي، اقترب مني، تأمل بآثار المسامير في يديّ ورجليّ وحدّق إلى جنـبي المطعون بل هات يدك وضع أصابعك في مواضع الجراح، وكن مؤمنًا.

هذه شهادة تاريخية سجلها الإنجيل، بل تحوّلت إلى شهادة وثائقية لأنها حدثت أمام جميع الماثلين في العليّة. لم تكن وهمًا أو حلمًا من الأحلام. إنها حقيقة ظلّت حية في قلوب التلاميذ وعقولهم، وتأكيد على صحة القيامة.

وهكذا لعب شك توما دورًا إيجابيًا في تاريخ الكنيسة. ولكن هناك نوع آخر من الشك يسفر عن نتائج وخيمة العاقبة؛ وهو الشك السلبي. إن هذا الضرب من الشك مبني إما على الغيرة أو التعصّب أو حتى على الحماقة أيضًا. إنه شك لا يستهدف إلاّ الدمار، شك متجرّد من حوافز المعرفة ولا يسعى وراء الحقيقة. فالغيرة مثلًا تولّد الشك في نفس أيّ زوج غيور في أي تصّرف من تصرّفات زوجته، والزوجة الشديدة الغيرة تجد في كل كلمة أو نظرة أو تصرّف من تصرّفات زوجها، مهما كانت بريئة، مثارًا للشك. مثل هذا الشك لا علاقة له بالإيمان. وتنطبق القاعدة عينها على الشك الناجم عن التعصّب. فالمتعصب لدينه أو عقيدته أو حزبه السياسي أو لتقاليده يصبح عرضة للشك في كل ما يمسّ ما يتعصّب له من قريب أو بعيد، فالمتعصب لدينه يرى في كل من يخالفه في العقيدة عدوًا ويشكّ في جميع مقاصده، وكذلك المتعصّبون لأحزابهم. والحقيقة أن الإيمان الراسخ لا يعني التعصّب لأن الإيمان الحق لا يعرف العداوة أو الحقد أو التعصّب الجاهلي، بل لا يعرف الشك الأعمى.

بقي أن أشير إلى ظاهرة اليقين المنبثقة عن الإيمان المتولِّد عن الشك الإيجابي. دعوني أولًا أطرح هذا السؤال: ماذا تعتقدون بإيمان توما بعد أن مرّ بتجربة الشك، ثم انتصر عليها بلقائه بالمسيح؟ هل كان في طوق أية قوة في الأرض بعد ذلك أن تزعزع إيمان توما بصحة قيامة المسيح وتمحو سلام اليقين من صدره؟ يحدثنا تقليد الكنيسة أن توما مات شهيدًا في سبيل إيمانه. وهذا أعظم ما يمكن أن يبلغ إليه اليقين من ذرى.

بعد أن مررت في بوتقة الشك وخرجت منها كالذهب المصفّى لم تعد التجارب والمحن تؤثّر على طبيعة إيماني، وأصبَحَت جميع الهرطقات والفلسفات تتحطّم على صخرة إيماني لأنني اختبرت معنى اليقين المطلق في حياتي. أصبح إيماني مقياسًا اعرض عليه كل فكر أو فلسفة أو خاطر أو عقيدة أو اتجاه مستحدث. وعلى ضوء هذا المقياس احكم على كل ما هو جديد، لا عن تعصّب إنما عن وعيٍ واختبار. إن رفضي لكل ما يناقض إيماني هو حصيلة المعرفة والتجربة.

إن مثل هذا اليقين هو الذي ألهب همة التلاميذ للكرازة بالإنجيل للخليقة كلها.

مثل هذا اليقين حمل المسيحيين الأوائل على الموت كشهداء من أجل المسيح.

مثل هذا اليقين هو ما يجعلنا أن نحمل مشعل الإنجيل لأقاصي المعمورة في القرن الحادي والعشرين.

وأخيرًا، مثل هذا اليقين هو مصدر الرجاء بكل ما وعد به الرب يسوع المسيح المؤمنين به من حياة أبدية. فهل تتمتع أنت بمثل هذا اليقين؟