الرئيسية

"فإذا تواضع شعبي" (2أخبار 14:7).

يذكر لنا الأصحاح السادس من سفر أخبار الأيام الثاني الصلاة التي رفعها الملك سليمان عند تدشين الهيكل الذي بناه للرب.

والأصحاح السابع من نفس السفر يذكر لنا أن الرب قد سمع صلاة سليمان، فيقول: "وَلَمَّا انْتَهَى سُلَيْمَانُ مِنَ الصَّلاَةِ، نَزَلَتِ النَّارُ مِنَ السَّمَاءِ وَأَكَلَتِ الْمُحْرَقَةَ وَالذَّبَائِحَ، وَمَلأَ مَجْدُ الرَّبِّ الْبَيْتَ" (2أخبار 1:7). ويضيف في الأعداد 12-14: "وَتَرَاءَى الرَّبُّ لِسُلَيْمَانَ لَيْلاً وَقَالَ لَهُ: «قَدْ سَمِعْتُ صَلاَتَكَ، وَاخْتَرْتُ هذَا الْمَكَانَ لِي بَيْتَ ذَبِيحَةٍ. إِنْ أَغْلَقْتُ السَّمَاءَ وَلَمْ يَكُنْ مَطَرٌ، وَإِنْ أَمَرْتُ الْجَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ الأَرْضَ، وَإِنْ أَرْسَلْتُ وَبَأً عَلَى شَعْبِي، فَإِذَا تَوَاضَعَ شَعْبِي الَّذِينَ دُعِيَ اسْمِي عَلَيْهِمْ وَصَلَّوْا وَطَلَبُوا وَجْهِي، وَرَجَعُوا عَنْ طُرُقِهِمِ الرَّدِيةِ فَإِنَّنِي أَسْمَعُ مِنَ السَّمَاءِ وَأَغْفِرُ خَطِيَّتَهُمْ وَأُبْرِئُ أَرْضَهُمْ".

وبنعمة الله سنتناول العدد الرابع عشر بالتفصيل في عدة حلقات، نبدأها بالمقطع الأول: "فإذا تواضع شعبي" تحت عنوان "التواضع".

قيل عن التواضع بشكل عام: هو الصندوق الذهبي الذي يحتوي كل الفضائل.

وقيل أيضًا: إن طريق المسيحية هو طريق التواضع، وهنا تكمن قوة الإنجيل.

وقيل أيضًا: إن الكنيسة لا تنمو بالتبشير فقط بل بالشهادة، شهادة المحبة المتواضعة التي لا تتباهى بنفسها، بل تحب وتخدم الآخرين.

ولكي نفهم معنى التواضع لنتأمل بعمق في حياة السيد المسيح، له كل المجد! فهو أعظم وأروع مثل للتواضع والذي قال عن نفسه: "وتعلّموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم" (متى28:11). قد عاش السيد المسيح في كل مراحل حياته في الأرض، من ميلاده حتى صعوده إلى السماء، عاش حياة التواضع. فلنقترب قليلاً من السيد المسيح لنتعلم منه معنى التواضع.

 

1- إخلاء النفس لأجل المسيح

"الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً ِللهِ. لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ" (فيلبي 6:2-7). مع أنه هو الله كلي القدرة، والعظمة، والسلطان، والجلال، الذي عرشه في السماء، الذي تسجد له الملائكة والقديسون، وقبل بإرادته واختياره أن يتنازل عن كل مجده في السماء ويتجسد في صورة إنسان ليفدي الإنسان.

فماذا يعني إخلاء النفس لنا اليوم؟

أعتقد أنه يعني أن نتنازل عن حقوقنا لمجد الله، وعن مركزنا ومكانتنا الاجتماعية طوعًا واختيارًا لمجد الله، وعن امتيازاتنا في هذا الدهر، وكرامتنا لمجد الله... إن تطلّب الأمر منا هذا فلا نبخل به. فنحن لسنا أفضل من سيدنا وربنا يسوع المسيح الذي كان يمكنه ان يولد في أعظم القصور، ولكنه قبل أن يولد في مذود حقير، وهو ملك الملوك، عمل نجارًا في دكان يوسف النجار، وهو الذي له الأرض والسماء، لم يكن له مكان يسند رأسه، استعار حمارًا ليدخل به أورشليم... دخل بيوت الخطاة وأكل معهم وكان صديقًا لهم... وأكثر من كل هذا، قبِلَ الهزء والاحتقار والإهانة والاتهامات الكاذبة والصلب لأجل فدائنا. أخلى نفسه. علّم التواضع وعاش التواضع.

أحبائي، التواضع هو إخلاء النفس من الذات، وخدمة الآخرين في محبة غير مغرضة. هو موقف داخلي ينبع من قلب محب، يظهر في أعمالنا ومواقفنا وعلاقاتنا مع الآخرين خاصة مع الفقراء والمهمّشين في المجتمع.

2- والتواضع هو إعطاء النفس للجميع

كانت حياة المسيح حياة عطاء للآخرين: لم تكن حياته لنفسه بل للآخرين. قال: "كما أن ابن الإنسان لم يأتِ ليُخدم بل ليخدِم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين" (متى 28:20). كان يخدم الناس كل وقته، سواء في تعليمهم أو شفائهم، أو إشباعهم، أو تطهيرهم، أو تعزيتهم ومواساتهم، أو في الصلاة من أجلهم. كان شعاره: "يَنْبَغِي أَنْ أَعْمَلَ أَعْمَالَ الَّذِي أَرْسَلَنِي مَا دَامَ نَهَارٌ..." (يوحنا 4:9). وأيضًا "قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ" (يوحنا 34:4).

بعد أن غسل المسيح أرجل تلاميذه قال لهم: "فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا السَّيِّدُ وَالْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ، فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ، لأَنِّي أَعْطَيْتُكُمْ مِثَالاً، حَتَّى كَمَا صَنَعْتُ أَنَا بِكُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا" (يوحنا 14:13-15).

وكما كان المسيح في تواضعه خادمًا للجميع، فنحن يجب أن نخدم الآخرين "بتواضع حاسبين بعضكم البعض أفضل من أنفسهم" (فيلبي 3:2). فالتواضع هو إعطاء النفس للآخرين.

 

3- والتواضع هو إنكار النفس أمام الجميع

سأل التلاميذ المسيح قائلين: "فمن هو أعظم في ملكوت السماوات"؟ قال لهم المسيح: "الحق أقول لكم: إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السماوات" (متى 1:18 و3).

وقال في متى 24:16 "إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي".

فالتواضع هو الاختفاء وراء صليب المسيح ليظهر المسيح فينا، وعدم التفاخر والتظاهر، بل الجلوس في المتكأ الأخير. يظهر في خدمة الخفاء، وفي صدقة الخفاء، وفي الصلاة والصوم، وفعل الخير في الخفاء دون تكبر أو احتقار الآخرين أو التعالي عليهم.

عندما تشاجر التلاميذ فيما بينهم على المركز ومن يكون فيهم أولاً، قال لهم المسيح: "فَلاَ يَكُونُ هكَذَا فِيكُمْ. بَلْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمْ عَظِيمًا فَلْيَكُنْ لَكُمْ خَادِمًا، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمْ أَوَّلاً فَلْيَكُنْ لَكُمْ عَبْدًا" (متى 26:20-27).

وإنكار النفس يعني أيضًا قبول حمل الصليب دون تذمّر بل بشكر ورضى وتسليم.

"لا تصدّق! فحيث لا يوجد تواضع لا توجد معجزات". تحت هذا العنوان حكى أحد كبار الأساقفة بأنه سمع عن شابة خادمة جديدة تصنع معجزات، فأرسل الأسقف إلى الكنيسة التي تخدم فيها هذه الشابة القديس فيليب النيري، ليتحرّى أمر معجزات هذه الشابة. فذهب القديس فيليب في رحلة شاقة امتلأت ثيابه وقدماه بالتراب والطين. وطلب من الخادمة الكبيرة المسؤولة في الكنيسة أن تسمح له أن يقابل الشابة التي تصنع المعجزات، وعندما جاءت خلع حذاءه وطلب منها أن تنظفه، فنظرت إليه نظرة احتقار وتركته دون أن تنطق ببنت شفة. فخرج القديس فيليب النيري من الكنيسة عائدًا إلى الأسقف ليقول له: "لا تصدق! فحيث لا يوجد تواضع لا توجد معجزات".

فبعد أن عرفنا أن إخلاء النفس لأجل الجميع، وإعطاء النفس لخدمة الجميع، وإنكار النفس أمام الجميع هو طريق التواضع الحقيقي الذي رأيناه في حياة السيد المسيح، فالطريق إلى فوق يبدأ من تحت، والطريق إلى الارتفاع يبدأ بالاتضاع. فالمسيح الذي أخلى نفسه... رفّعه الله أيضًا وأعطاه اسمًا فوق كل اسم. فهل تتبع إثر خطواته؟